" الهبة في القانون السوري "
فهرست ....
١ باب تمهيدي
٢ الباب الأول – في تعريف الهبة ومقوّماتها وعناصرها
٣ الباب الثاني – في أركان الهبة في القانون السوري
٣.١ الفصل الأول – شروط الانعقاد العامّة في عقد الهبة
٤ الفصل الثاني – في الشرط الخاصّ بعقد الهبة وهو الشكلية
٥ الباب الثالث – في آثار الهبة
٦ فهرس
٧ المراجع
٨ الهامش والحواشي
باب تمهيدي
مقدّمة في مفهوم الهبة وقواعدها وشروطها في التشريع الإسلامي :
أوّلاً – مفهوم الهبة في التشريع الإسلامي : ذكر جمهور الفقهاء : أن الهبة ، والهديّة ، والصدقة ، والعطيّة ذات معانٍ متقاربةٍ ، وكلّها تمليكٌ في الحياة بلا عوض ، واسم العطيّة شاملٌ لجميعها ، وكذا الهبة ، غير أن هناك تغايراً بين الصدقة والهبة والهديّة ، فإن كان المقصود الأصلي ثواب الآخرة بإعطاء محتاجٍ فهو صدقةٌ ، وإن كان المقصود التودّد والتقرّب والمحبّة وحُملت إلى مكان الشخص فهي هديّة ، وإن كان المقصود نفع المتبرَّع له فهو هبة. وفي اللغة العربية : "الهِبَة" بكسر الهاء وفتح الباء ، مصدر وهَبَ يَهِبُ ، هِبَةً ووَهْباً ، ومعناها: ( إيصال النفع إلى الغير بما ينفعه ، سواءً كان مالاً أو غير مال. ويراد ويقصد بـ ( الهبة) في الشريعة الإسلامية التبرّع والتفضّل على الغير ، سواء كان ذلك بمالٍ أم بشيءٍ آخر وعلى ذلك وردت لفظة ( هَبْ ) و( وَهَبَ ) في القرآن الكريم وفي آيات عديدات كمثل قوله عزّ وجلّ : ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) الآية 38 من سورة آل عمران . وقوله تعالى : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) الآية 83 من سورة الشعراء . وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) الآية 74 من سورة الفرقان . و قوله تعالى : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الآية 35 من سورة ص . و قوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) الآية 39 من سورة إبراهيم والهبة في التشريع الإسلامي : (عقدُ يقتضي أن يمتلك شخصُ مالاَ معلوماً أو مجهولاً تعذّر علمه ، مقدورًا علي تسليمه ، غير واجب في حياة الواهب ، بلا عوض عن الموهوب إليه ، بلفظ من ألفاظ التمليك أو ما يقوم مقامه ) . ويعرّفها فقهاء الحنفية بأنها: ( تمليك العين بلا شرط العوض في الحال ) .. وعلى هذا نجد أن إباحة المال للانتفاع به دون نقلٍ لملكيّته ، يكون إعارةً وليس هبةً ، كما أن تمليك الغير بشرط أن يكون ذلك بعد الوفاة ، يكون وصيّة وليس هبةً . وأما إن كانت الهبة بمقابل فإنها تنقلب بيعاً وتجري عليها أحكامه . وغني عن البيان أن الشرع اشترط ألا يكون المال الموهوب مما حرّمه الإسلام أصلاً . ( فما حَرُمَ على الآخذ أخذه ، حَرُمَ على المعطي إعطاؤه ) . والفقهاء المسلمون يحدّدون للهبة بمعناها العام عناصر ثلاثة كي تكتمل صورة هذا العقد فالهبة تشمل إبراء ذمّة الموهوب له ، وتوفّر قصد الصدقة فيها، وتقديمها كهديّة بدون مقابل . وقد شرّع الله تعالى الهبة لما تعبّر عنه من الأخوّة والألفة بين الناس ، ونبتِ السرور في النفوس ، وهي مشروعةٌ كما جاء في القرآن الكريم: ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) الآية 4 من سورة النساء . وقوله تعالى : ( وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) الآية 195 من سورة البقرة . ولقوله عليه الصلاة والسلام : ( تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد . فقد كان الرسول الكريم يقبل الهديّة ويثيب عليها ، ويرغّب فيها ويدعو إلى قبولها .
ثانياً - قواعد وشروط الهبة في الشريعة الإسلامية : تضمّنت الشريعة الإسلامية القواعد الكلية التي تضبط الهبات حتى لا تتعارض مع أحكام الميراث ، أو تسبّب خللاً في ترابط أفراد الأسرة والمجتمع ، ومن هذه القواعد ما يلي :
أوّلاً : توافر أركان الهبة وهي أربعة :- 1- الواهب وهو مالك العين أو المال الموهوب و يشترط في الواهب أن يكون أهلاً للتبرّع عاقلاً بالغاً ، فلا تجوز هبة الصبي والمجنون لفقده الأهلية ، وأن لا يشوب رضاه بتقديم الهبة أيّ عيبٍ أو إكراهٍ . 2- الموهوب له وهو الشخص الذي وُهب له الشيء الموهوب ، ويُشترَط في الموهوب له أن يكون موجوداً في وقت الهبة حقيقةً ، فلا تصحّ الهبة للجنين ، وتصحّ لغير المميّز فيقبضها الوليّ أو الوصيّ عنهما. 3- الشيء الموهوب وهو العين أو المال موضع الهبة . ويُشترَط فيه أن يكون موجوداً فعلاً وقت الهبة حتى لا يكون معدوماً ، وأن يكون مالاً متقوّماً مملوكاً للواهب غير مشغولٍ بغيره ، وأن يكون مالاً متميّزاً متّصلاً بملك الواهب قابلاً للتداول وانتقال الملكيّة، ويشترِط الأحناف أن لا يكون المال مشاعاً لا يحتمل القسمة . 4 - صيغة الهبة وهى ما يصدر عن الواهب دالاً على إنشاء الهبة بأية صورةٍ من صور الإثبات ، وأما عند الأحناف فركن الهبة هو الإيجاب والقبول ، ولا تتمّ الهبة إلا بالقبض . وبعض الفقهاء ذهب إلى الإيجاب في الهبة كافٍ ، ويقول الحنابلة أن الهبة تصحّ ولو بالمحاكاة ، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه يُهدَون ويُهدى إليهم دون أن يشترطوا إيجاباً أو قبولاً .
ثانياً – لا تجوز هبة الشيء المغتصَب ، ويجب أن يردّ إلى أصحابه حتى ولو بعد موت الواهب ، كما لا يجوز هبة الشيء المرتَهن. ويجب أن تكتب الهبة وتوثّق ويُشَهّد عليها ، حتى لا يترتّب على إهمال ذلك مشاكل بين الأفراد المتعلّقين بها . كما لا يجوز أن تتعارض الهبة مع القواعد الكلّية للميراث. كما أن تملّك الهبة يثبت للموهوب له من غير عوض ، واشترط أبو حنيفة قبضها ولكن الإمام أحمد ذهب إلى أنها تصحّ بمجرّد العقد ولو مات الواهب أو الموهوب له ، ولا يصحّ الرجوع في الهبة إلا هبة الوالد لولده، لقوله عليه الصلاة والسلام : ( ليس لأحدٍ أن يعطي عطيّة ، فيرجع فيها إلا الوالد، فيما يعطي لولده ). ويري الأحناف أنه يجوز الرجوع في الهبة ( أعطية الأولاد). وإذا أعطى الوالد أولاده شيئاً ، فتستحبّ التسوية بينهم ، والتسوية بينهم تكون بإعطاء الأولاد والإناث علي حدٍّ سواء ، وهذا رأي الجمهور . واستدلّوا على ذلك بالحديث : (سووا بين أولادكم في العطيّة، ولو كنت مؤثّرا، لآثرت النساء على الرجال) رواه الطبري وهو حديث ضعيف، ويري الحنابلة أن العطاء يكون كما في الميراث ، للذكر مثل حظّ الاثنتين . وأما هبة المريض مرض الموت فتجري عليها أحكام الوصيّة إلا إذا أجازها الورثة ، وذهب جمهور الفقهاء إلى إجازة الهبة في جميع المال ، ولكن الأحناف يرون أن ذلك لا يصح وعدّوا من يقوم به سفيهاً يستحقّ الحجر . الهبة في القانون المدني السوري : نظم القانون المدني السوري أحكام الهبة في المواد من 454 إلى 472 منه . وهو موضوع هذا البحث .
الباب الأول – في تعريف الهبة ومقوّماتها وعناصرها
أوّلاً – تعريف الهبة في القانون المدني السوري :
تعرّف المادّة ( 454) من القانون المدني السوري الهبة بأنها : ( عقدٌ يتصرّف بمقتضاه الواهب في مالٍ له دون عوض ، على أنه يجوز للواهب دون أن يتجرّد عن نيّة التبرّع أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزامٍ معينٍ ) . ومن هذا التعريف نجد أن لعقد الهبة في القانون المدني السوري عناصر و مقوّمات أربعة .
ثانياً - مقومات الهبة :
1ـ الهبة عقدٌ ما بين الأحياء ، وهي عقدٌ لا بدّ فيه من إيجابٍ وقبولٍ متطابقين. ولا تنعقد الهبة بإرادة الواهب المنفردة . وهي تختلف عن الوصيّة في أنها عقدٌ لا يجوز الرجوع فيه إلا في أحوالٍ معيّنة ، وفي أن أثرها لا يتراخى حتماً إلى موت الواهب . 2ـ بموجب هذا العقد يتصرّف الواهب في ماله ، فالواهب يتصرّف في مال يملكه ، ذلك أن الهبة تدخل في عموم عقود التبرّع ، وتختصّ الهبة في أن الواهب يلتزم بإعطاء شيء . ولكنه ليس من الضروري أن يكون التصرّف باتّاً. 3ـ يكون هذا التصرف بدون عوض ، فالواهب إذن يتصرّف في ماله دون مقابل . ولكن يجوز للواهب أن يفرض على الموهوب له القيام بأداء التزامٍ معيّنٍ بشرط ألا يتجرّد من نيّة التبرّع . وقد جاء في قرارٍ لمحكمة النقض : ( إن عقد الهبة شأن باقي العقود يجوز فسخها فيما إذا بنيت على شرطٍ وأخلّ الموهوب له بهذا الشرط . حيث أنه يجوز للواهب دون أن يتجرّد عن نيّة التبرّع أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزامٍ معيّنٍ ) . نقض سوري رقم 44 أساس 2086 تاريخ 24/1/1983 منشور في التقنين المدني السوري ج 5 4- وأن يكون ذلك بقصد و نيّة التبرّع وهذه النيّة مسألةٌ نفسيةٌ ، والعبرة أن تكون قد توافرت في الوقت الذي تمّ فيه انعقاد الهبة ، ويعود لمحكمة الموضوع أمر استخلاص وجودها من عدمه . وقد جاء في الاجتهاد القضائي: ( نيّة التبرّع مسألةٌ نفسيةٌ ، واستخلاص هذه النيّة من إرادة التصرّف بدون عوض ، ونيّة التبرّع تختلط في الواقع بركن الرضاء في الهبة ، وتَعَرُّف نيّة التبرّع من شأن محكمة الموضوع ) . نقض مصري 7/12/1967 مجموعة المكتب الفني السنة 18 ص 1833 التقنين المدني السوري ج5
ثالثاً - عناصر الهبة : يتكوّن عقد الهبة من عنصرين :
1ـ عنصرٌ مادّيٌ : وهو تصرّف الواهب في ماله دون عوضٍ ، فالهبة عقدٌ لا بدّ فيه من إيجابٍ وقبولٍ متطابقين . ولا تنعقد الهبة بإرادة الواهب المنفردة ، ولكن يصحّ أن تكون الهبة معلّقةً على شرطٍ فاسخٍ أو على شرطٍ واقفٍ . كذلك يصحّ أن يكون تسليم الموهوب له مقترناً بأجلٍ ، وقد يكون هذا الأجل هو موت الواهب . فهي افتقارٌ في جانب الواهب وإثراءٌ في جانب الموهوب له ، فلا يستطيع الواهب أن يستردّ الهبة إلا في الأحوال التي يجوز فيها الرجوع عنها . وليس يمنع أن تكون الهبة دون عوضٍ من الهبات المتبادلة . وتقرّر الفقرة الثانية من المادّة (454 ) من القانون المدني السوري أنه يجوز للواهب أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزامٍ معيّنٍ ، ولا يمنع ذلك من أن يكون العقد هبةً . فيصحّ أن يفرض الواهب على الموهوب له التزاماً لمصلحة الموهوب له نفسه ، على أنه يجوز أيضاً أن يكون الالتزام مفروضاً لمصلحة الواهب له. 2ـ عنصرٌ معنويٌ : ويتجلّى في توفّر نيّة التبرّع لدى الواهب ، فقد يتصرّف الشخص في ماله دون عوضٍ ولا تكون عنده نيّة التبرّع . ونيّة التبرّع مسألةٌ ذاتيةٌ نفسيةٌ، والعبرة فيها بما يقوم بنفس المتبرّع وقت التبرّع ، فهل قصد تضحيةً من جانبه دون أن يقصد منفعةً ؟ . فتتوافر نيّة المتبرّع حتى لو جنى فيما بعد منفعةً لم تدخل في حسابه ، ولكن نيّة التبرّع تنتفي إن كان الواهب قد قصد تحقيق منفعةٍ له وإن لم تتحقّق فعلاً ، ونجد أن نيّة التبرّع تنتفي في عطايا المكافأة ، كالمكافآت السنوية التي تعطيها الشركات لمستخدميها . وقد يعطي الشخص مالاً ولكنه لا يقصد به التبرّع المحض ، بل يقصد جني منفعةٍ مادّيةٍ أو أدبيةٍ فتنتفي في هذه الحالة نيّة التبرّع ، ولا يعتبر التصرّف هبةً . فيجب إذن في الهبة أن تتمخّض عن نية الواهب للتبرّع ، دون أن يقصد وفاءً بالتزامٍ طبيعيٍ ، ودون أن يهدف إلى الإثابة على صنيعٍ ، أو إلى جني منفعةٍ .
الباب الثاني – في أركان الهبة في القانون السوري
الهبة عقدٌ ويجب أن تتوافر فيه الشروط العامّة المطلوبة في كافّة العقود الأخرى وهي : 1- شروط انعقادٍ عامّةٍ وهي كما في كل العقود : التراضي والمحلّ والسبب . 2- وشرط صحّةٍ خاصٍّ : إذ أوجب القانون وجود الشكلية بالهبة ، فلهبة العقار شكلٌ يجب أن يتوفّر حتى تصحّ , وأما هبة المنقول فتتمّ بالقبض دون حاجةٍ لسندٍ رسميٍ .
الفصل الأول – شروط الانعقاد العامّة في عقد الهبة
وتتضمّن - التراضي في عقد الهبة ، وشروط صحّته ، وعيوبه ، ومحلّ الهبة :
أوّلاً - التراضي في عقد الهبة : تنصّ الفقرة الأولى من المادّة 455 من القانون المدني السوري على أنه : (لا تتمّ الهبة إلا إذا قبلها الموهوب له أو نائبه ) ، الهبة عقدٌ تسري عليه القواعد العامّة في نظرية العقد ، فلا تتمّ بالإرادة المنفردة من الواهب ولا بدّ من قبول الموهوب له للهبة حتى تتمّ. واستلزام قبول الموهوب له ، لأن الهبة وإن كانت تبرّعاً ، إلا أنها تثقل عنق الموهوب له بالجميل وتفرض عليه واجباتٍ أدبيةٍ نحو الواهب، وقد يُؤثِر الموهوب له رفض الهبة. والقانون لم ينصّ على أن يكون القبول صريحاً، فيصحّ أن يكون ضمنياً . ( بل أن مجرّد سكوت الموهوب له بعد علمه بالإيجاب إذا تمخّضت الهبة لمنفعته ، يعتبر قبولاً ) نقض مدني مصري 13 مارس 1947 واستئناف مصر 9 مارس سنة 1920 المحاماة 4 رقم 347 . كما أن : ( الهبة تنعقد صحيحةً بمجرّد الإيجاب من الواهب والقبول من الموهوب له ، ونقل الملكية ليس ركناً من أركان انعقادها ولا شرطاً لصحّتها ، والهبة عقدٌ يُراد به التمليك الفوري ). نقض مصري تاريخ 13/3/1947 مجموعة المكتب الفني ـ 2 ـ 1914 ( أما إذا كانت الهبة بعوضٍ ، أو فرض فيها الواهب على الموهوب له التزاماً ، فإن السكوت في هذه الحالة لا يعتبر قبولاً، إلا إذا كانت الظروف تدلّ على أن الموهوب لم يكن لينتظر تصريحاً بالقبول ولم يرفض الموهوب له الهبة في الوقت المناسب . ولا بدّ أن يكون القبول مطابقاً للإيجاب، وإلا لم تنعقد الهبة ) . الوسيط للسنهوري ج5 ص27 و 28 وأما الدكتور محمد كامل مرسي فيقول: ( لا يُشترط في الإيجاب والقبول أن يكونا بألفاظٍ مخصوصةٍ . فيصحّ الإيجاب بأيّ لفظٍ يفيد الهبة ، كان يقول الواهب : وهبت هذا الشيء لك أو ملّكته منك أو جعلته لك و إلخ... ويصحّ القبول بأيّ لفظٍ كذلك، مثل قبلت أو أخذت أو رضيت . على أن اللفظ ليس بشرطٍ ، فقد يكون الإيجاب والقبول بالفعل ، فالإرسال والقبض يقومان مقام الإيجاب والقبول . ويجب توافق الإيجاب والقبول ، فإذا قرّر المعطي أنه يعطي على سبيل الهبة ، وقرّر المعطى له أنه يقبض على سبيلٍ آخرٍ ، فلا هبة ) . العقود المسماة ج2 ص24 فقرة 15 و ص26 فقرة 16 د. محمد كامل مرسي ولكن .. ما حكم القانون والفقه والاجتهاد القضائي في : حالة رجوع الواهب عن إيجابه قبل صدور قبول الموهوب له ؟ ، أو موت الواهب أو فقدانه أهليته قبل وصول الإيجاب للموهوب له ؟ ، أو حدث ذلك للموهوب له فمات أو فقد أهليته قبل صدور القبول عنه ؟ . وماذا إن صدر القبول عن شخصٍ آخرٍ غير الموهوب له ؟ . الحالة الأولى ( رجوع الواهب في الهبة قبل وصول القبول إلى علمه ) : إذا صدر إيجاب من الواهب ولم يكن الإيجاب ملزماً ، فإن للواهب أن يرجع عن إيجابه إلى الوقت الذي يصل فيه قبول الموهوب له إلى علمه ، وبشرط أن يصل الرجوع عن الهبة إلى علم الموهوب له قبل وصول قبول الموهوب له إلى علم الواهب . ففي هذه الحالة لا تتمّ الهبة، لأن القبول وقت أن يصل إلى علم الواهب لم يصادف إيجاباً قائماً ، فلم يقترن القبول بالإيجاب. وللواهب قبل وصول الموهوب له إلى علمه بأن يتصرّف في المال الموهوب وأن يثقله برهن أو بحقّ إرفاق أو بغير ذلك من الحقوق العينية ، وتنفذ هذه التصرفات في حقّ الموهوب له حتى بعد قبول الهبة.
الحالة الثانية ( موت الواهب أو فقده لأهليته قبل وصول الإيجاب إلى الموهوب له ): لا يُنتج القبول أثره إلا إذا وصل إلى علم الواهب ، ولأن الواهب قد مات أو فقد أهليته، فسيستحيل علمه بالقبول. ومن ثمّ فلن تتمّ الهبة ، وليس في هذا إلا تطبيقٌ للقواعد العامّة. وهذا ما لم يكن إيجاب الواهب ملزماً، بأن حدّد الواهب ميعاداً للقبول أو استخلص هذا الميعاد من ظروف الحال ، فعند ذلك ينتقل الالتزام إلى ورثته، فإذا وصل قبول الموهوب له إلى علمهم أنتج أثره.
الحالة الثالثة ( موت الموهوب له أو فقده لأهليته قبل القبول) : في هذه الحالة لن تتمّ الهبة لأن الإيجاب لم يلاقِ شخصاً يقبله. إذ أن الهبة أمرٌ خاصٌّ بشخص الموهوب له ، فلا يحلّ ورثته محله في القبول. أما إذا مات الموهوب له أو فقد أهليته بعد صدور القبول منه ، ولكن قبل أن يصل هذا القبول إلى علم الواهب ، فإن القبول يبقى قائماً وينتج أثره إذا اتّصل بعلم الواهب ، فتتمّ الهبة بالرغم من موت الموهوب له ولا يمنع من ذلك أن الهبة موجهةٌ إلى شخصٍ بالذات وقد مات أو فقد أهليته ، فإن هذا الشخص قد قبل الهبة فعلاً وبقي قبوله قائماً بالرغم من موته أو فقده لأهليته ، وفقاً للقواعد المقررة في هذا الشأن، وأنتج القبول القائم أثره بمجرد وصوله إلى علم الواهب. وقد جاء في اجتهاد محكمة النقض السورية : ( 1- تسري على عقد الهبة القواعد المقرّرة في نظرية العقد في تطابق الإيجاب والقبول ، وعليه فإن وفاة الواهب قبل أن يتمّ قبول الهبة ووصول القبول إلى علمه يجعل هذا القبول غير منتجٍ ولا تتمّ الهبة. 2 ـ أن موت صاحب الإرادة في الإيهاب قبل أن تُنتج هذه الإرادة أثرها ـ بقبول الهبة ـ يستتبع سقوط الإرادة ) . نقض سوري رقم 2285 أساس 1907 تاريخ 22/11/1982 ـ سجلات محكمة النقض
الحالة الرابعة : القبول الصادر من غير شخص الموهوب له: قد يصدر قبول الهبة من شخص غير شخص الموهوب له ، ويتحقّق ذلك إذا صدر القبول من نائبه. والنائب هنا إما أن يكون نائباً نيابة قانونية، كالوليّ والوصيّ والقيّم. وإما أن يكون وكيلاً. والوكالة في الهبة يجب أن يتوافر فيها الشكل الواجب توافره في عقد الهبة نفسه ، أي يجب أن تكون الوكالة في ورقةٌ رسميةٌ. ولكن إذا وكّل الموهوب له وكيلاً ليقبل عنه الهبة ، جاز أن يكون التوكيل في ورقةٍ عرفيةٍ ، لأن قبول الهبة المنفصل لا تُشترَط فيه الرسمية. ولا بدّ من وكالةٍ خاصّةٍ في الهبة والإيجاب . ويجب أن يُذكر فيها المال الموهوب، فتتخصّص الوكالة بهذا المال دون غيره. ولا يجوز لأجنبيٍ غير نائبٍ عن الموهوب له، لا نيابةً قانونيةً ولا نيابةً اتّفاقيةً ، أن يقبل الهبة عنه إلا بطريق الفضالة إذا تحقّقت شروطها . ولمّا كان قبول الهبة أمراً شخصياً خاصاً بالموهوب له، فقد تقوّمت عنده اعتباراتٌ أدبيةٌ تدفعه إلى عدم قبول الهبة، وهو وحده الذي يستطيع تقديرها ، فإنه إذا لم يقبل الهبة لم يُجِز لدائنيه أن يستعملوا حقّه في أن يقبلوا نيابةً عنه. الفقرات 2 و 3 و 4 و 5 من الوسيط للسنهوري ج5 ص27 وما بعد وقد جاء في الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض المصرية : ( إذا وهب الأب لطفلته الصغير فلا حاجة للقبول لإتمام الهبة ، لأن المال لما كان في قبض الأب ناب مناب قبض الصغير. وبه تتمّ الهبة للقاصرين بغير حاجةٍ إلى قبول وصيٍّ يقام عليهما ) . نقض مصري 23/2/ 1950 مجموعة المكتب الفني11912منشور في التقنين المدني السوري ج5 ثانياً - شروط صحّة الرضا في عقد الهبة : تسري أحكام الرضا وعيوبه على عقد الهبة ، كما تسري على العقود الأخرى :
1 – الأهلية في عقد الهبة ( أهلية الواهب وأهلية الموهوب له ) : أ - أهلية الواهب : - الصبي غير المميّز والمجنون ( المادتين 111 و 115 من القانون المدني السوري ) : تقع الهبة الصادرة عنهما باطلةً بطلاناً مطلقاً ، فلا تصحّحها الإجازة لأن عديم التمييز لا يملك أصلاً حقّ التصرّف ولا التعاقد ، ولكن ينبغي أن تكون الهبة التي صدرت عن المجنون قد صدرت بعد إشهار قرار الحجر ، إلا إذا كان الجنون شائعاً أو كان الموهوب له عالماً به . - أما الصبي المميّز ( المادة 112 من القانون المدني السوري ) : فتقع تصرفاته قابلةً للإبطال متى كانت دائرةً بين النفع والضرر ، ولأن الهبة تعتبر من التصرّفات الدائرة بين النفع والضرر بالنسبة للواهب المميّز ، لذا فتكون الهبة الصادرة عنه قابلةً للإبطال لمصلحته . - بالنسبة للسفيه وذي الغفلة ( المادة 117 من القانون المدني السوري ) : فتقع الهبة باطلةً إذا صدرت بعد شهر قرار الحجز ، أما إذا صدرت قبله فتصحّ إلا إذا وقعت نتيجة استغلالٍ أو تواطؤٍ . - أما البالغ الراشد : فبمقدوره طبعا أن يَهِبَ ماله لمن يشاء ، وسواءً كان الموهوب له وارثاً أم غير وارث ، ولكنها إن صدرت في مرض الموت فحكمها حكم الوصية لغير الوارث ، ولا تسري في حقّ الوارثين إلا في حدود الثلث . - وأخيرا وبالنسبة للأصم الأبكم ، أو الأعمى الأصم ، أو الأعمى الأبكم : فيكون التصرف بالهبة قابلا للإبطال إن كانت المساعدة القضائية قد تقررت لصالح الواهب إذا صدر التصرف بعد إشهار قرار المساعدة ، أما لو صدرت الهبة بمعاونة المساعد ، فيكون حكمها حكم التبرعات التي يجوز للوصي مباشرتها بإذن المحكمة . ب - أهلية الموهوب له : - بالنسبة للصغير غير المميز أو المجنون : فلا يمكن لهما أن يقبلا الهبة ، لانعدام الإدراك والتمييز لديهما ، ولكن يجوز للولي أو الوصي عنهما أن يقبلها إذا كانت لا تتم إلا بقبضها ، وأما عن كانت مقترنة بشرط أو التزام يترتب على الصغير غير المميز أو المجنون ، فلا يجوز للولي أو الوصي قبولها أو رفضها إلا بإذن المحكمة . - أما الصبي المميز والسفيه وذو الغفلة : فيصح عنهم قبول الهبة غير المقترنة بشرط أو التزام لأنهم استوفوا شرط الأهلية اللازمة لذلك ، ويكفي في هذه الحالة ان يأذن الولي أو الوصي أو القيم بذلك ، وأما إن كانت الهبة معلقة على شرط أو ترتب التزاما بحق الموهوب له ، فيجب أن تأذن المحكمة بقبولها . - وبالطبع فإن البالغ الراشد : يملك الحق في قبول الهبة دون إذن أحد ، سواء كانت بشرط أم بدونه . - وتقع الهبة للجنين : باطلة لأن الموهوب له يجب أن يكون موجودا حقيقة وفعلا ، وليس حكما ، وليس للجنين ولي أو وصي يقبل الهبة عنه ! .
ثالثا – عيوب الرضا في عقد الهبة :
1- الغلط في الهبة ( المادة 122 من القانون المدني السوري ): إن كان الغلط في الهبة جوهريا ، فإنها قابلة للإبطال ، وقد يقع الغلط في شخص الموهوب له ، أو في الشيء الموهوب أو في قيمته . 2- التدليس في الهبة ( المادتين 126 و 127 من القانون المدني السوري ) : إذا شاب التدليس إرادة أحد المتعاقدين في الهبة ، جاز إبطالها ، ويعتبر تدليسا السكوت عمدا عن واقعة أو ملابسة إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان يبرم عقد الهبة لو كان عالما بهذه الواقعة ، ولكن إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين ، فليس للمتعاقد المدلس عليه طلب إبطال العقد ، مالم يثبت علم المتعاقد الآخر بذلك . 3- الإكراه في الهبة ( المادة 128 من القانون المدني السوري ) : يجعل الإكراه الهبة قابلةً للإبطال ، ومن صوره الشائعة إكراه الزوجة على تقديم الهبة . 4- الاستغلال في عقد الهبة : كأن يستغلّ الموهوب له في شخص الواهب هوىً جامحاً ، أو طيشاً بيّناً ، وهنا يمكن للواهب أن يسلك طريق دعوى إبطال التصرّف ، أو الإنقاص ، فإذا سلك الطريق الأولى جاز للقاضي أن يجيبه إلى طلبه ، ولكن إن رأى القاضي أن الاستغلال لم يبلغ من الجسامة ما يجوز معه الحكم بإبطال التصرّف ، فإنه يحكم بالإنقاص من قيمة الموهوب.
رابعاً – محلّ عقد الهبة : المحلّ في عقد الهبة هو الشيء الموهوب الذي يتبرّع به الواهب للموهوب له ،فيسري عليه ما يسري على محلّ العقد عموماً ، فيجب أن يكون موجوداً ومعيّناً أو قابلاً للتعيين صالحاً للتعامل به مملوكاً لواهبه .
1- هبة ملك الغير :
تنصّ المادّة (459) من القانون المدني السوري على أنه : (إذا وردت الهبة على شيءٍ معّينٍ بالذات، غير مملوكٍ للواهب. سرت عليها أحكام المادّتين 434 و435 ) . ولأن المادّة 434 تنصّ على أنه : 1 ـ إذا باع شخص شيئاً معيّناً بالذات، وهو لا يملكه، جاز للمشتري أن يطلب إبطال البيع. 2- وفي كل حال، لا يسري هذا البيع في حقّ المالك للعين المبيعة. والمادّة 435 تنصّ على أن : 1 ـ إذا أقرّ المالك البيع، سرى العقد في حقّه وانقلب صحيحاً في حقّ المشتري. 2 ـ وكذلك ينقلب العقد صحيحاً في حقّ المشتري إذا آلت ملكية المبيع إلى البائع بعد صدور العقد.وهنا نفرق بين حالتين : أ - هبة ملك الغير فيما بين المتعاقدين : فهي قابلة للإبطال لمصلحة الموهوب له. فللموهوب له وحده أن يطلب إبطال الهبة، حتى قبل أن يتعرّض له المالك الحقيقي. ويكون للموهوب له مصلحةٌ في إبطال الهبة إذا كانت الهبة بعوضٍ، أو مقترنةً بالتزاماتٍ فُرضت عليه، فيطلب إبطال الهبة في هذه الحالة حتى يتخلّص من دفع العوض أو من القيام بهذه الالتزامات. ويجوز للموهوب له أن يطالب بتعويضٍ عمّا أصابه من الضرر بسبب إبطال الهبة، إذا كان الواهب قد تعمّد إخفاء أن الشيء الموهوب مملوكٌ للغير، أو كانت الهبة بعوضٍ. وفي الحالة الأولى يستحقُ الموهوب له تعويضاً عادلاً. وفي الحالة الثانية يرجع بما أدّاه من عوضٍ. وللموهوب له أن يُجيز الهبة، فتنقلب صحيحةً، ولكن ذلك لا يعني أنها تنقل ملكية الموهوب إلى الموهوب له، لن المالك الحقيقي لم يُجز الهبة وهو أجنبيٌّ عنها فلا تنقل الملكية منه إلا برضائه. وكذلك تنقلب الهبة صحيحةً إذا آلت ملكية الموهوب إلى الواهب بعد صدور الهبة. وهبة ملك الغير قابلةٌ للإبطال بموجب نصٍّ خاصٍّ وهو المادة (459)، كما أن هبة عقار الغير تكون قابلةً للإبطال قبل التسجيل وبعده. الوسيط للسنهوري ج5 ج2 ص121 فقرة 81
ب- هبة ملك الغير بالنسبة إلى المالك الحقيقي: إذا لم يقرّ المالك الحقيقي الهبة ، فسواءً أجاز الموهوب له الهبة أو لم يُجزها ، فإن المالك الحقيقي أجنبيٌ عن الهبة ، فلا تسري في حقّه ، ومن ثمّ يبقى مالكاً للموهوب. ولا تنتقل منه الملكية إلى الموهوب له، حتى ولو انقلبت الهبة صحيحةً بإجازة الموهوب له. ويترتّب على ذلك أن المالك الحقيقي يستطيع أن يرجع على الموهوب له بدعوى الاستحقاق وأن يرجع على الواهب بالتعويض. وقد يقرّ المالك الحقيقي الهبة . وهذا الإقرار من شأنه أن ينقل ملكيّة الموهوب منه إلى الموهوب له وانقلابها صحيحةً بهذا الإقرار من وقت صدورها ، وانتقال ملكيّة الموهوب إلى الموهوب له دون حاجةٍ في ذلك إلى عمل الهبة من جديدٍ. الوسيط للسنهوري ج5 ج2 ص122 فقرة 82. 2- هبة المال المستقبل:
تنصّ المادّة ( 460) من القانون المدني السوري على أنه : (تقع هبة الأموال المستقبلة باطلةً ) . والمال المستقبل هو المال غير الموجود وقت الهبة. وهبة المال المستقبل باطلةٌ بطلاناً مطلقاً، لا تلحقها الإجازة ولا يرِد عليها التقادم . ويجوز لكلّ ذي مصلحة أن يتمسّك بالبطلان ، ويجوز للقاضي أن يحكم به من تلقاء نفسه. والسبب في هذا البطلان يرجع إلى ما تنطوي عليه هبة المال المستقبل من خطرٍ. فإن الواهب يندفع إلى هبة مالٍ حاضرٍ، فأراد المشروع أن يحميه من هذا الاندفاع بإبطال الهبة. هذا ويجوز تحوّل هبة المال المستقبَل الباطلة إلى وعدٍ بالهبة ملزمٍ ، يجوز الرجوع فيه كما يجوز الرجوع في الهبة. ( وإذا وهب شخص مالاً حاضراً ومالاً مستقبلاً في وقتٍ واحدٍ لشخصٍ واحدٍ ، وكانت الهبة قابلةً للتجزئة ، صحّت في المال الحاضر وبطُلت في المال المستقبَل، طبقاً للقواعد المقررّة في إنقاص العقد ) . الوسيط للسنهوري ج5 ص117 فقرة 78.
3- هبة المال الشائع :
يحقّ للمالك على الشيوع أن يتصرّف بماله الشائع عن طريق الهبة ، فتأخذ ذات الأحكام الواردة على بيع المالك على الشيوع لحصّته الشائعة والواردة في المادّة 781 من القانون المدني السوري : 1 ـ كل شريكٍ في الشيوع يملك حصّته ملكاً تاماً، وله أن يتصرّف فيها، وأن يستولي على ثمارها، وأن يستعملها بحيث لا يُلحق الضرر بحقوق سائر الشركاء. 2 ـ وإذا كان التصرّف منصبّاً على جزءٍ مفرزٍ من المال الشائع، ولم يقع هذا الجزء عند القسمة في نصيب المتصرّف، انتقل حقّ المتصرَّف إليه من وقت التصرّف إلى الجزء الذي آل إلى المتصرِّف بطريقة القسمة. وللمتصرَّف إليه إذا كان يجهل أن المتصرِّف لا يملك العين المتصرَّف فيها مفرزةً ، الحقّ في إبطال التصرف. فإذا وهب المالك على الشيوع حصّته الشائعة ، فإنها تنتقل بحالتها إلى الموهوب له ، أمّا إذا وهب حصّةً مفرزةً من المال الشائع قبل القسمة ، فلم يقع هذا الجزء في نصيب الواهب ، فإن حقّ الموهوب له ينتقل إلى الجزء الذي آلَ للواهب نتيجة القسمة إن كان عالماً بأن الواهب لا يملك الجزء المفرز ويملك فقط حصّته على الشيوع ، وأمّا إن كان يعلم فإنه يكون قد وقع في خطأٍ جوهريٍ ، فتصبح الهبة قابلةً للإبطال لمصلحة الموهوب له . ولكن إن حصلت القسمة قبل أن يطلب الموهوب له إبطال الهبة ووقع الجزء المفرز في حصّة الواهب ، فإن الهبة تنقلب صحيحة .
4- الهبة في مرض الموت :
إذا صدرت الهبة في مرض الموت ، فإنها تأخذ حكم الوصية وفق القواعد التي قرّرتها المادّة 445 من القانون المدني السوري : 1 ـ إذا باع المريض مرض الموت لوارثٍ أو لغير وارثٍ بثمنٍ يقلّ عن قيمة المبيع وقت الموت ، فإن البيع يسري في حقّ الورثة إذا كانت زيادة قيمة المبيع على الثمن لا تتجاوز ثلث التركة داخلاً فيها المبيع ذاته. 2 ـ أمّا إذا كانت هذه الزيادة تُجاوز ثلث التركة ، فإن البيع فيما يجاوز الثلث لا يسري في حقّ الورثة إلا إذا أقرّوه أو ردّ المشتري للتركة ما يفي بتكملة الثلثين. 3 ـ ويسري على بيع المريض مرض الموت أحكام المادة 877. ويترتّب على هذا .. أن الموهوب إن لم تَزِد قيمته وقت الموت على ثلث التركة ، فإن الهبة تصحّ لغير الوارث . أما إذا زادت قيمة الموهوب عن الثلث ، فإنها تصحّ فيه فقط وبدون إجازة من الورثة الذين يمكنهم أن يجيزوا التصرّف ولو زاد عن ثلث التركة .
الفصل الثاني – في الشرط الخاصّ بعقد الهبة وهو الشكلية
في مبرّرات الشكلية ، وجزاء الإخلال بها، وكيفيّة تنفيذها في هذه الحالة ، واستثناءاتها :
أوّلاً - مبرّرات الشكلية في عقد الهبة:
إن الذي يبرّر الشكلية في الهبة أنها عقدٌ خطيرٌ لا يقع إلا نادراً ولدوافع قوية يتجرّد الواهب بها عن ماله دون مقابل . فالواهب في أشدّ الحاجة إلى التأمّل والتدبّر، والشكلية تُعينه على ذلك. والورقة الرسمية، بما تتضمنّه من إجراءاتٍ معقّدةٍ وما تستتبعه من جهرٍ وعلانيةٍ وما تستلزمه من وقتٍ وجهدٍ ، نافعةٌ كلّ النفع لحماية الواهب، ولحماية أسرته، بل ولحماية الموهوب له نفسه. فهي نافعةٌ للواهب إذ هو في الوقت الذي يتجرّد فيه عن ماله دون مقابلٍ في حاجةٍ إلى التدبر ليأمن من شرّ الاندفاع وراء انفعالاتٍ عارضةٍ . وهي نافعةٌ لأسرة الواهب ، إذ الواهب وهو يتجرّد من ماله دون مقابل يسلب ورثته بعض حقّهم في تركته . وقد يكون في إجراءات الورقة الرسمية وعلانيتها سبيلٌ للورثة للإحاطة بما يٌقدم عليه مؤرّثهم فيبصّرونه بمغبّة عمله. والورقة الرسمية نافعةٌ للموهوب له نفسه ، لأن الهبة عقدٌ يسهل الطعن فيه ، فخيرٌ للموهوب له أن يتسلّح بهذه الرسمية للدفاع عن حقّه. وإذا كان القانون قد استغنى في المنقول عن الورقة الرسمية بالقبض ، فلأن القبض مناسب أكثر لطبيعة المنقول ، وهو عملٌ مادّيٌ كفيلٌ أن ينبه الواهب إلى خطرٍ أقدم عليه ، إذ يتجرّد عن حيازة الشيء الموهوب. وعلى هذا نصّت المادّة 456 من القانون المدني السوري : 1- تكون الهبة بسندٍ رسميٍ . وإلا وقعت باطلةً ما لم تتمّ تحت ستار عقدٍ آخرٍ. 2 ـ ومع ذلك يجوز في المنقول أن تتمّ الهبة بالقبض . دون حاجةٍ إلى سندٍ رسميٍٍ . والاجتهاد القضائي مستقرٌّ على هذا : ( هبة العقار بغير سندٍ رسميٍ باطلةٌ ما لم يكن محلّها منقولٌ أو تكون هبةً خفيّةً . وهذا البطلان تثيره المحكمة من تلقاء نفسها) .(١) كما جاء في اجتهاد محكمة النقض السورية : 1 ـ إن الهبة تكون باطلةً بطلاناً مطلقاً لاختلال الشكل الذي رتّبه القانون فيها إذا لم توثّق بسندٍ رسميٍ وإنما بسندٍ عاديٍ . 2 ـ حياة سند الهبة لا ينزل بمنزلة قبض المال الموهوب المغني عن السند الرسمي. 3 ـ إن مجرّد كتابة سندٍ عاديٍ بالهبة لا يُعطي المتبرّع له أدنى حقّ في المطالبة به اعتباراً بأن أساسه تصرّفٌ باطلٌ بطلاناً مطلقاً. وسند الهبة العادي لا يخرج عن كونه سند ائتمان يمثل تعهّدا بالوفاء بالتزام نشأ عن علاقةٍ حقوقيةٍ سابقةٍ .(٢)
ماهي الشروط الواجب توفّرها في الورقة الرسمية ؟
إن الإيجاب المكتوب في ورقةٍ رسميةٍ يجب أن يشتمل على جميع عناصر الهبة من مالٍ موهوبٍ ، وواهبٍ ، وموهوبٍ له . وجميع الشروط التي قد يحتويها هذا العقد من عوضٍ والتزاماتٍ مفروضةٍ على الموهوب له. ولا يجوز أن تُستكمل هذه الورقة الرسمية في عنصرٍ من عناصر الهبة، أو في التزامٍ فيها، بورقةٍ عرفيةٍ وإلا كانت الشكلية ناقصةً وكانت الهبة باطلةً . وإنما يجوز تفسير عقد الهبة فيما اشتمل عليه من عناصر والتزاماتٍ وشروطٍ بأوراقٍ عرفيّةٍ أو بمراسلاتٍ أو بدلائلَ مادّيةٍ أو بّينةٍ أو بقرائنَ أو بغير ذلك بما يستعانُ به عادةً في تفسير العقود ، فإن عقد الهبة يفسّر بالطرق ذاتها التي تُفسّر بها سائر العقود والاجتهاد القضائي مستقرٌّّ على ذلك : ( لا تتمّ الهبة إلا بسندٍ رسميٍ ما لم تتمّ تحت ستار عقدٍ آخرٍ. فهي عقدٌ شكليٌ إذا اختلّ كانت الهبة باطلةً بطلاناً مطلقاً ، ولا يعتبر تسليم السند إلى شخصٍ هبةً ما لم يقترن بسند هبةٍ أو بالقبض) .(٣)
وسأفصّل فيما يلي بين الهبة الجارية على عقارٍ ، والهبة الجارية على منقولٍ في مبحثين :
1- الهبة في العقار :
لا تتمّ الهبة في العقار إلا بسندٍ رسميٍ ، فإن لم تكن كذلك وقعت باطلةً ، مالم تكن مستترةً تحت عقدٍ آخرٍ فإن صحّ أن يكون القبول منفصلاً عن الإيجاب ، ولا يتطلّب إفراغه في ورقةٍ رسميةٍ ، فإن الإيجاب الصادر عن الواهب لا بدّ من إفراغه في سندٍ رسميٍ كي ينعقد صحيحاً ، وإلا وقع باطلاً . وعلى هذا سارت محكمة النقض السورية إذ اعتبرت أنه : ( يجب أن تكون الهبة بسندٍ رسميٍ في العقارات وإلا كانت باطلةً . وهذا عيب في الشكل يورث الهبة البطلان المطلق بحيث لا تصحّحها الإجازة ) .(٤) فكل ما يستطيع المتعاقدان فعله في هذه الحالة ( كما سلف ) إعادة إبرام العقد من جديدٍ ليستوفيا الشكل المطلوب، وعند ذلك نكون أمام هبةٍ جديدةٍ غير الهبة الأولى الباطلة ، ويحقّ للمحكمة إثارة البطلان في هبة العقارات بغير سندٍ رسميٍ من تلقاء نفسها : ( هبة العقار بغير سندٍ رسميٍ باطلةٌ ، ما لم يكن محلّها منقولٌ أو تكون هبةً خفيّةً. وهذا البطلان تثيره المحكمة من تلقاء نفسها) . (٥) والنتيجة : إن رسميّة عقد الهبة في العقارات من النظام العام ، وفقدانها يشوب الهبة بالبطلان ، ولذلك يجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسّك بهذا البطلان ، وللمحكمة أن تثيره من تلقاء نفسها .
2– الهبة في المنقول : الأصل في هبة المنقولات أنها أيضا لا تتمّ إلا بسندٍ رسميٍ ، كما حال الهبة في العقارات، وان يشتمل هذا السند على عناصر الهبة الأساسية ، ولكن المشرع استثنى المنقولات من هذا الشرط ، فأجاز أن تتمّ الهبة في المنقول عن طريق القبض كما ورد في الفقرة الثانية من المادة 456 من القانون المدني السوري : ( يجوز في المنقول أن تتمّ الهبة بالقبض . دون حاجةٍ إلى سندٍ رسميٍ ) . وإذاً .. فلقد اشترط المشرع لصحّة هبة المنقول بهذه الطريقة ، أن يحصل التسليم للموهوب له فعلاً ، ولا يُشترط بعده أي إجراءٍ آخرٍ وهذا ما يُدعى في الفقه القانوني بـ ( الهبات اليدوية ) . فمع أن القانون لم يشترط لهبة المنقول تحريرها بسندٍ رسميٍ ، ولكنه اشترط أن يتمّ قبضها ، وإلا فإنها تقع باطلةً ، وإن كان قد تم تحرير سندٍ عاديٍ بها : ( إن مجرّد كتابة سندٍ عرفيٍ بالهبة لا يعطي المتبرَّع له أي حقّ بالمطالبة به. ذلك أن السند الرسمي هو ركنٌ من أركان وجود الهبة لأن عقد الهبة في المنقول الذي يوثَّق بسندٍ رسميٍ يقع باطلاً ما لم يقترن بالقبض ولا يثبت فيه ملك المال للموهوب له قبل القبض ).(٦) إن هبة المنقول وإن أعفاها القانون من الشكلية ، ولكن يجب أن تتوفّر فيها كل العناصر والشروط الأخرى الخاصّة بالهبات فالهبة اليدوية معفاةٌ فقط من شرط الرسمية في العقد ، ولكن يجب أن تتوافر فيها كل الشروط الأخرى الخاصة بالهبة، مثل شرط الأهلية ونيّة التبرّع ... وبما أن الحيازة في المنقول سندٌ للملكية ، فإن ادّعى شخصٌ أن الشيء الذي في يد غيره موهوبٌ له ، فعليه أن يثبت ذلك. كذلك إذا حاز شخصٌ منقولاً أُعطي له بصفة هبةٍ يدويةٍ ، فعلى من ينازعه في ذلك أن يثبت دعواه، ولكن يجب أن تتوافر في الحيازة أيضاً شروطها بأن تكون هادئةً ظاهرةً .. . فالشرط الأساسي هو أن يحصل التناول، أي التسليم ، من يدٍ ليدٍ أو القبض بالفعل . وهذا الشرط هو الذي يقوم مقام المحرّر الرسمي في الهبات الأخرى. فإذا لم يحصل التسليم والتسلم بالفعل ، فلا بد فيها من تحرير ورقةٍ رسميةٍ . ويمكن لكل من الواهب والموهوب له أن يتّخذ وسيطاً في تسليم الهبة فينوب الوسيط عن كل منهما في تسليم الهبة وفي استلامها ، ويكون قبض الهبة بحسب طبيعة الشيء الموهوب ، وقد جاء في اجتهاد لمحكمة النقض السورية : (أن الهبة في المنقول تتمّ بالقبض الذي يتكيّف حسب طبيعة الموهوب. فقد يسلّم الواهب المنقول لوسيطٍ بقصد تسليمه للموهوب له فيتمّ القبض بتسليم المنقول للموهوب له ويكون الوسيط نائباً عن الواهب. وقد يكون الوسيط نائباً عن الموهوب له فيتمّ القبض بتسليم الواهب المنقول إلى الوسيط دون حاجةٍ لتسليمه للموهوب ) (٧)
ثانياً- جزاء الإخلال بشكل الهبة :
إذا اختلّ شكل الهبة الذي أوجب القانون توافره كانت الهبة باطلةً ، ولكن .. مالذي يترتّب على هذا البطلان ؟ وما حكم القانون فيما لو قام الواهب أو ورثته بتنفيذ هبةٍ باطلةٍ لعيبٍ في الشكل ؟ إن جزاء اختلال الشكل في عقد الهبة هو البطلان المطلق : فإذا اختلّ شكل الهبة، فإنها باطلةٌ بطلاناً مطلقاً ولا تُنتج أثراً ، فيبقى المال الموهوب ملكاً للواهب يستطيع أن يتصرّف فيه كما يريد. ولا ينتقل الملك إلى الموهوب له، فلا يستطيع هذا أن يطالب بتسليمه المال، ولا يستطيع أن يتصرّف فيه، ولكن يجوز أن تتضمّن الهبة الباطلة تصرّفاتٍ أخرى لا يُشترط فيها شكلٌ معيّنٌ ، كما لو تضمّنت إلغاءً لوصيّةٍ سابقةٍ ، فيبقى إلغاء الوصية قائماً بالرغم من بطلان الهبة. كذلك قد تتحوّل الهبة الباطلة إلى وصيّةٍ صحيحةٍ طبقاً للقواعد المقررة في تحوّل التصرّفات . ويجوز للواهب عند ذلك أن يرفع دعوى البطلان وأن يتمسّك بالبطلان دفعاً في دعوى يرفعها عليه الموهوب له. كما يجوز لأي ذي مصلحة أن يتمسّك بالبطلان ، فيتمسّك به الورثة والخلف الخاصّ . وإذا كان الواهب قد سلّم الشيء الموهوب للموهوب له وانقضت دعوى البطلان بالتقادم (تتقادم بخمسة عشرة سنة من وقت عقد الهبة ) ، جاز للواهب أن يرفع دعوى استحقاقٍ يستردّ بها العقار، ولا يستطيع الموهوب له أن يدفع هذه الدعوى بالتقادم، فإن الدفوع لا تتقادم. والبطلان في الأصل لا تلحقه الإجازة ( أي وإن أجاز الواهب العقد ) . ولمّا كان بطلان الهبة لعيبٍ في الشكل هو بطلانٌ مطلقٌ ، فإن الهبة الباطلة على هذا النحو لا تصحّحها الإجازة ، لا من الواهب ولا من ورثته، ما لم يُنفّذ الواهب أو ورثته الهبة اختياراً فتصحّ الهبة . وكل ما يستطيع المتعاقدان عمله هو أن يعيدا إبرام العقد من جديدٍ فيستوفيا الشكل المطلوب، وعند ذلك تتمّ الهبة، ولكنها هبة جديدة غير الهبة الأولى الباطلة ، وتاريخها من وقت استيفاء الشكل من وقت الهبة القديمة. ويُشترط توافر الأهلية في المتعاقدين عند عمل الهبة الجديدة، ولا يكفي توافرها وقت إبرام الهبة.(٨) ويرى الدكتور محمّد كامل مرسي : أن الهبة من العقود الرسمية أو الشكلية، التي لا يكفي لتكوينها الإيجاب والقبول، بل يُشترط لانعقادها شكلاً خاصاً. فقد جعل القانون من شروطها أن تكون محرّرة بورقةٍ رسميةٍ ، وذلك لغرضين: 1 ـ لحماية الواهب، بتوجيه نظره إلى جسامة العمل الذي يقدم عليه وهو تجرده من بعض أمواله بدون مقابل. 2 ـ لضمان عدم الرجوع في الهبة، إذ يجب ألا يعود الواهب في هبته بإعدام السند المثبِت لها. والمحرّر الرسمي واجبٌ في الهبة، سواءً أكان موضوعها عقاراً أم منقولاً، وإلا كانت باطلةً. ولكن القانون لا يشترط الرسمية في القبول إذا حصل بورقةٍ لاحقةٍ للإيجاب. وإذا لم تكن الهبة بورقةٍ رسميةٍ وقعت باطلةً بطلاناً مطلقاً. وعلى ذلك يجوز لكل ذي مصلحةٍ أن يتمسّك بالبطلان، بل يجوز للمحكمة أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها، وللواهب أن يتمسّك بالبطلان. والهبة الباطلة شكلاً لعدم استيفائها شرط الرسمية لا يمكن تصحيحها بإجازة الواهب لها، بل لا بدّ لتصحيحها من عمل محررٍ آخر بها يكون رسمياً، وهذا حتى في الحالة التي يقوم بها الواهب بتنفيذ العقد من جهته. ويعتبر باطلاً كل تصرّف من الموهوب له متى كان عقد الهبة الباطل أساساً له، وتكون صحيحة التصرّفات التي أجراها الواهب. العقود المسماة ج2 ص76 فقرة 59 وص80 فقرة 63 للدكتور محمد كامل مرسي . وقد سبق وورد اجتهاد لمحكمة النقض السورية بهذا الشأن : 1 ـ إن الهبة تكون باطلةً بطلاناً مطلقاً لاختلال الشكل الذي رتّبه القانون فيها إذا لم توثّق بسندٍ رسميٍ وإنما بسندٍ عاديٍ . 2 ـ حياة سند الهبة لا ينزل بمنزلة قبض المال الموهوب المغني عن السند الرسمي. 3 ـ إن مجرّد كتابة سندٍ عاديٍ بالهبة لا يُعطي المتبرّع له أدنى حقّ في المطالبة به اعتباراً بأن أساسه تصرّف باطلٌ بطلاناً مطلقاً. وسند الهبة العادي لا يخرج عن كونه سند ائتمان يمثّل تعهّداً بالوفاء بالتزام نشأ عن علاقةٍ حقوقيةٍ سابقةٍ .(٩)
ثالثاً- تنفيذ الهبة الباطلة لعيبٍ في الشكل :
لمّا كان بطلان الهبة لعيبٍ في الشكل هو بطلانٌ مطلقٌ ، لذلك فإن الهبة لا تصحّحها الإجازة مالم ينفّذ الواهب أو ورثته هذه الهبة كي تصحّ ، وعندها لا يجوز لهم أن يستردّوا الموهوب الذي سلّموه . وقد نصّت المادّة 457 من القانون المدني السوري على ذلك : (إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلةٍ لعيبٍ في الشكل فلا يجوز لهم أن يستردّوا ما سلّموا). فإذا نفذ الواهب، أو ورثته، مختارين هبةً باطلةً في الشكل ، سواء كان المال الموهوب عقاراً أو منقولا ً، فإنه لا يجوز لهم أن يستردّوا ما سلّموه ، لا لأن التنفيذ وفاءٌ لالتزامٍ طبيعيٍ ، بل لأنه إجازة بطريقٍ خاصّةٍ ـ نصّ عليها القانون ـ لهبةٍ باطلةٍ في الشكل ، وهذه الإجازة صحّحت الهبة ، فانتقلت الملكية للموهوب له ، فلم يعد الواهب يستطيع أن يستردّها. فتنفيذ الهبة الباطلة لعيبٍ في الشكل هو إجازةٌ خاصّةٌ لهذه الهبة وتصحيح لها.
فإذا وقعت الهبة الباطلة على منقولٍ ، كان أمام الواهب لتصحيح هذه الهبة طريقان :
الطريق الأول: أن يفصل الشكل الباطل ويحلّ محله القبض ، فتصبح هبة المنقول هبةً يدويّةً ، ويكون القبض في هذه الحالة ليس تنفيذاً لعقد الهبة الباطل بل هو إتمامٌ لهبةٍ يدويةٍ في المنقول.
الطريق الثاني: أن ينفّذ الهبة الباطلة تنفيذاً اختيارياً، وذلك عن طريق القبض أيضاً. ولكن القبض هنا ليس إتماماً لهبةٍ يدويةٍ في المنقول ، بل هو تنفيذٌ لهبةٍ باطلةٍ . وهناك فرقٌ هامٌّ ما بين الطريقين تظهر فيما يأتي . لو قصد الواهب الطريق الأول وأراد أن يُتمّ الهبة بالقبض، فالهبة لا تتمّ إلا من وقت القبض. أمّا لو قصد الطريق الثاني وأراد أن يصحّح الهبة بالقبض عن طريق التنفيذ الاختياري، فالهبة تنقلب صحيحةً من وقت صدورها، لأن للإجازة أثرٌ رجعيٌ ينسحب إلى وقت وجود العقد. (١٠) والواقع أن نصّ المادّة (457) لا يسلم من النقد . لأنه إما أن تكون الرسمية في الهبة متعلقةً بالنظام العام فلا يمكن أن يترتّب على مخالفتها أيّ التزامٍ . أو أن تكون متعلّقةً بمصلحةٍ خاصّةٍ فيكون جزاء مخالفتها بطلاناً نسبياً لمصلحة من تعلّقت به. وفضلاً عن ذلك، فإن هذه القاعدة تؤدّي عملاً إلى إحباط أثر المادّة ( 456) ، إذ يكفي أن تُبرَم الهبة دون مراعاة الشكل الذي فرضه القانون ثم ينفّذها الواهب بعد برهةٍ طويلةٍ أو قصيرةٍ . ولعلّ هذا الاعتبار هو الذي دعا المشرّع الفرنسي إلى التمييز بين الواهب وبين ورثته، وقصر إمكان الإجازة على هؤلاء الأخيرين، وأوجب على الأول إبرامها من جديد.(١١)
رابعاً - استثناءات الشكلية في عقد الهبة :
1 – الهبة المستترة :
الهبة المستترة هي : ( هبةٌ مباشرةٌ ينقل فيها الواهب إلى الموهوب إليه حقاًّ عينيّاً أو حقّا شخصياً ، ولكنها تُباشَر تحت ستار عقدٍ آخر ) . فهي حقيقةً عقد هبةٍ ، ولكنها تظهر بصورة عقدٍ آخر . وتقول محكمة النقض السورية في هذا الصدد أنه : (بمقتضى المادّة 456 مدني فإن الهبة تكون بسندٍ رسميٍ ما لم تتمّ تحت ستار عقدٍ آخر ففي الهبة المستترة في صورة عقد بيع لا داعي لوجود سندٍ رسميٍ يستقلّ بالهبة . ويعود لقاضي الموضوع البتّ في التصرّف فيما إذا كان هبةً مستترةً ولا معقّب على تقديره من محكمة النقض ) .(١٢)
2- شروط الهبة المستترة :
أ– وجود عقدٍ آخر غير عقد الهبة ساترٍ لها : فلا بدّ من وجود عقدٍ آخر ( كالبيع مثلاً ) يخفي العقد الحقيقي الذي أبرمه المتعاقدان وهو عقد الهبة .
ب – وجوب توافر جميع شروط هذا العقد ( الساتر ) التي أوجب القانون توفّرها : فإن كان العقد الساتر هو عقد بيع ، فيجب أن يستوفي كل شروطه القانونية ، من إيجابٍ وقبولٍ ومبيعٍ وثمنٍ ، فإن فقد البيع شرطاً من شروط صحّته وقع باطلاً ، فتكون الهبة المستترة فيه باطلةٌ أيضاً ، وقد سار الاجتهاد القضائي على ذلك : (يُشترط القانون لصحّة الهبة المستترة أن يكون العقد الساتر للهبة مستوفياً الشروط المقرر