بحث في التحكيم
************************************
التَحْكِيـــــــــــــمٌ :
التَّعْرِيفُ :
1 - التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ : مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأَْمْرِ وَالشَّيْءِ ، أَيْ : جَعَلَهُ حَكَمًا ، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ .
وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .
وَحَكَّمَهُ بَيْنَهُمْ : أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ . فَهُوَ حَكَمٌ ، وَمُحَكَّمٌ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ : إِنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُحَكَّمِينَ فَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ يَقَعُونَ فِي يَدِ الْعَدُوِّ ، فَيُخَيَّرُونَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْل ، فَيَخْتَارُونَ الْقَتْل ثَبَاتًا عَلَى الإِْسْلاَمِ .
وَفِي الْمَجَازِ : حَكَّمْتُ السَّفِيهَ تَحْكِيمًا : إِذَا أَخَذْتَ عَلَى يَدِهِ ، أَوْ بَصَّرْتَهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ . وَمِنْهُ قَوْل النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : حَكِّمِ الْيَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدكَ . أَيِ : امْنَعْهُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَمْنَعُ وَلَدَكَ وَقِيل : أَرَادَ حُكْمَهُ فِي مَالِهِ إِذَا صَلَحَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدَكَ .
وَمِنْ مَعَانِي التَّحْكِيمِ فِي اللُّغَةِ : الْحَكَمُ .
يُقَال : قَضَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ، وَقَضَى لَهُ ، وَقَضَى عَلَيْهِ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : التَّحْكِيمُ : تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا .
وَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ : التَّحْكِيمُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّخَاذِ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا بِرِضَاهُمَا لِفَصْل خُصُومَتِهِمَا وَدَعْوَاهُمَا .
وَيُقَال لِذَلِكَ : حَكَمٌ بِفَتْحَتَيْنِ ، وَمُحَكَّمٌ بِضَمِّ الْمِيمِ ، وَفَتْحِ الْحَاءِ ، وَتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الْقَضَاءُ :
2 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ : الْحُكْمُ ، وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ : تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالإِْلْزَامُ بِهِ ، وَفَصْل الْخُصُومَةِ .
وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ التَّحْكِيمِ وَالْقَضَاءِ وَسِيلَةٌ لِفَضِّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَحْدِيدِ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صِفَاتٍ مُتَمَاثِلَةً . كَمَا سَنَرَى بَعْدَ قَلِيلٍ .
إِلاَّ أَنَّ بَيْنَهَا فَوَارِقَ جَوْهَرِيَّةً تَتَجَلَّى فِي أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الأَْصْل فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَأَنَّ التَّحْكِيمَ فَرْعٌ ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ صَاحِبُ وِلاَيَةٍ عَامَّةٍ ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ سُلْطَةِ الْقَضَاءِ أَحَدٌ ، وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنِ اخْتِصَاصِهِ مَوْضُوعٌ .
أَمَّا تَوْلِيَةُ الْحَكَمِ فَتَكُونُ مِنَ الْقَاضِي أَوْ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَفْقَ الشُّرُوطِ وَالْقُيُودِ الَّتِي تُوضَعُ لَهُ ، مَعَ مُلاَحَظَةِ أَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّحْكِيمِ ، كَمَا سَنَرَى .
ب - الإِْصْلاَحُ :
3 - الإِْصْلاَحُ فِي اللُّغَةِ : نَقِيضُ الإِْفْسَادِ . يُقَال : أَصْلَحَ : إِذَا أَتَى بِالْخَيْرِ وَالصَّوَابِ . وَأَصْلَحَ فِي عَمَلِهِ ، أَوْ أَمْرِهِ : أَتَى بِمَا هُوَ صَالِحٌ نَافِعٌ .
وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ : أَزَال فَسَادَهُ .
وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا ، أَوْ ذَاتَ بَيْنِهِمَا ، أَوْ مَا بَيْنَهُمَا : أَزَال مَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَدَاوَةٍ وَنِزَاعٍ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ .
، وَفِي ، الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْل وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
فَالإِْصْلاَحُ وَالتَّحْكِيمُ يُفَضُّ بِهِمَا النِّزَاعُ ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوْلِيَةٍ مِنَ الْقَاضِي أَوِ الْخَصْمَيْنِ ، وَالإِْصْلاَحُ يَكُونُ الاِخْتِيَارُ فِيهِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ مُتَبَرِّعٍ بِهِ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
التَّحْكِيمُ مَشْرُوعٌ . ، وَقَدْ دَل عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ .
4 - أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } .
قَال الْقُرْطُبِيُّ : إِنَّ هَذِهِ الآْيَةَ دَلِيل إِثْبَاتِ التَّحْكِيمِ .
5 - وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ بِتَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَمْرِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ ، حِينَ جَنَحُوا إِلَى ذَلِكَ وَرَضُوا بِالنُّزُول عَلَى حُكْمِهِ .
وَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ بِتَحْكِيمِ الأَْعْوَرِ بْنِ بَشَامَةَ فِي أَمْرِ بَنِي الْعَنْبَرِ ، حِينَ انْتَهَبُوا أَمْوَال الزَّكَاةِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ هَانِئَ بْنَ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ ، سَمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ . ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ ؟ فَقَال : إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي ، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ ، فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ . ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا . ، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ ؟ قَال : لِي شُرَيْحٌ ، وَمُسْلِمٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ . قَال : فَمَا أَكْبَرُهُمْ ؟ قُلْتُ : شُرَيْحٌ . قَال : أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ . وَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ .
6 - أَمَّا الإِْجْمَاعُ ، فَقَدْ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ ، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَاخْتَلَفَ عُمَرُ مَعَ رَجُلٍ فِي أَمْرِ فَرَسٍ اشْتَرَاهَا عُمَرُ بِشَرْطِ السَّوْمِ ، فَتَحَاكَمَا إِلَى شُرَيْحٍ .
كَمَا تَحَاكَمَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ زَيْدٌ وَلاَ شُرَيْحٌ وَلاَ جُبَيْرٌ مِنَ الْقُضَاةِ .
وَقَدْ وَقَعَ مِثْل ذَلِكَ لِجَمْعٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا .
7 - وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ .
إِلاَّ أَنَّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ امْتَنَعَ عَنِ الْفَتْوَى بِذَلِكَ ، وَحُجَّتُهُ : أَنَّ السَّلَفَ إِنَّمَا يَخْتَارُونَ لِلْحُكْمِ مَنْ كَانَ عَالِمًا صَالِحًا دَيِّنًا ، فَيَحْكُمُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، أَوْ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ . فَلَوْ قِيل بِصِحَّةِ التَّحْكِيمِ الْيَوْمَ لَتَجَاسَرَ الْعَوَامُّ ، وَمَنْ كَانَ فِي حُكْمِهِمْ إِلَى تَحْكِيمِ أَمْثَالِهِمْ ، فَيَحْكُمُ الْحَكَمُ بِجَهْلِهِ بِغَيْرِ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الأَْحْكَامِ ، وَهَذَا مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَلِذَلِكَ أَفْتَوْا بِمَنْعِهِ .
وَقَال أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : لاَ أُحِبُّ ذَلِكَ ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى .
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجْزِهِ ابْتِدَاءً . وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَال بِعَدَمِ الْجَوَازِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِجَوَازِهِ فِي الْمَال فَقَطْ .
وَمَهْمَا يَكُنْ فَإِنَّ جَوَازَ التَّحْكِيمِ هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ : فَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ نَفَاذُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ .
8 - وَطَرَفَا التَّحْكِيمِ هُمَا الْخَصْمَانِ اللَّذَانِ اتَّفَقَا عَلَى فَضِّ النِّزَاعِ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى الْمُحَكِّمَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ .
وَقَدْ يَكُونُ الْخَصْمَانِ اثْنَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونَانِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
9 - وَالشَّرْطُ فِي طَرَفَيِ التَّحْكِيمِ الأَْهْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ لِلتَّعَاقُدِ الَّتِي قِوَامُهَا الْعَقْل ، إِذْ بِدُونِهَا لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ .
وَلاَ يَجُوزُ لِوَكِيل التَّحْكِيمِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَلاَ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ مِنْ عَامِل الْمُضَارَبَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، وَلاَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالإِْفْلاَسِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْقَاصِرِ أَوْ بِالْغُرَمَاءِ .
شُرُوطُ الْمُحَكَّمِ :
10 - أ - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، فَلَوْ حَكَّمَ الْخَصْمَانِ أَوَّل مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ مَثَلاً لَمْ يَجُزْ بِالإِْجْمَاعِ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ ، إَلاَّ إَذَا رَضُوا بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَحْكِيمًا لِمَعْلُومٍ .
11 - ب - أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِوِلاَيَةِ الْقَضَاءِ ، وَعَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ ، عَلَى خِلاَفٍ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْدِيدِ عَنَاصِرِ تِلْكَ الأَْهْلِيَّةِ .
وَالْمُرَادُ بِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ هُنَا : الأَْهْلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْقَضَاءِ ، لاَ فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ مَوْضُوعِ النِّزَاعِ .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ : إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُمْكِنُ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْهُ عِنْدَمَا لاَ يُوجَدُ الأَْهْل لِذَلِكَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ مُطْلَقًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ جَوَازَ التَّحْكِيمِ بِعَدَمِ وُجُودِ قَاضٍ ، وَقِيل : يَتَقَيَّدُ بِالْمَال دُونَ الْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ ، أَيْ إِثْبَاتِ عَقْدِ النِّكَاحِ .
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ : إِنَّ الْمُحَكَّمَ لاَ تُشْتَرَطُ فِيهِ كُل صِفَاتِ الْقَاضِي .
وَثَمَّةَ أَحْكَامٌ تَفْصِيلِيَّةٌ لِهَذَا الشَّرْطِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَبْحَثِ ( دَعْوَى ) ( وَقَضَاءٌ ) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَحَقِّقَةً فِي الْمُحَكَّمِ مِنْ وَقْتِ التَّحْكِيمِ إِلَى وَقْتِ الْحُكْمِ . وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَكَّمِ : الإِْسْلاَمُ ، إِنْ كَانَ حَكَمًا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا ، أَمَّا إِذَا كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ يُشْتَرَطُ إِسْلاَمُ الْمُحَكَّمِ ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَكُونُ تَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ كَتَوْلِيَةِ السُّلْطَانِ إِيَّاهُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ وِلاَيَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْحُكْمَ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ صَحِيحَةٌ . ، وَكَذَلِكَ التَّحْكِيمُ .
وَلَوْ كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ ، وَحَكَّمَا غَيْرَ مُسْلِمٍ جَازَ ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ قَبْل الْحُكْمِ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُ الْحَكَمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَيُنَفَّذُ لَهُ .
وَقِيل : لاَ يُنَفَّذُ لَهُ أَيْضًا .
12 - أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتَحْكِيمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ صَحَّ ، وَإِلاَّ بَطَل . وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ فِي كُل حَالٍ .
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ حَكَّمَ مُسْلِمٌ وَمُرْتَدٌّ رَجُلاً ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ قُتِل الْمُرْتَدُّ ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا .
13 - وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ آثَارًا تَظْهَرُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ التَّفْرِيعِيَّةِ . . . مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا صَبِيًّا فَبَلَغَ ، أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ حَكَمَ ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ .
وَلَوْ حَكَّمَا مُسْلِمًا ، ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ أَيْضًا ، وَكَانَ فِي رِدَّتِهِ عَزْلُهُ . فَإِذَا عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَحْكِيمٍ جَدِيدٍ .
وَلَوْ عَمِيَ الْمُحَكَّمُ ، ثُمَّ ذَهَبَ الْعَمَى ، وَحَكَمَ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ .
أَمَّا إِنْ سَافَرَ أَوْ مَرِضَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ بَرِئَ وَحَكَمَ جَازَ ْ ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَقْدَحُ بِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ .
وَلَوْ أَنَّ حَكَمًا غَيْرَ مُسْلِمٍ ، حَكَّمَهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْل الْحُكْمِ ، فَهُوَ عَلَى حُكُومَتِهِ ؛ لأَِنَّ تَحْكِيمَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُسْلِمِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ .
وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ وَكَّل الْحَكَمَ بِالْخُصُومَةِ فَقَبِل ، خَرَجَ عَنِ الْحُكُومَةِ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا عَلَى قَوْل الإِْمَامِ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَدْ قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا فِي قَوْل الْكُل .
14 - ج - أَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَ الْمُحَكَّمِ وَأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَرَابَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ . وَإِذَا اشْتَرَى الْمُحَكَّمُ الشَّيْءَ الَّذِي اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِيهِ ، أَوِ اشْتَرَاهُ ابْنُهُ أَوْ أَحَدٌ مِمَّنْ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ ، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْحُكُومَةِ .
وَإِنْ حَكَّمَ الْخَصْمُ خَصْمَهُ ، فَحَكَمَ لِنَفْسِهِ ، أَوْ عَلَيْهَا جَازَ تَحْكِيمُهُ ابْتِدَاءً ، وَمَضَى حُكْمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْرًا بَيِّنًا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ :
الْقَوْل الأَْوَّل : أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَصْمُ الْحَكَمُ قَاضِيًا أَمْ غَيْرَهُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مُطْلَقًا لِلتُّهْمَةِ .
الثَّالِثُ : التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا أَوْ غَيْرَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا جَازَ .
وَالْقَوْل الأَْوَّل هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَبِهِ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ .
مَحَل التَّحْكِيمِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّحْكِيمِ .
15 - فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ .
وَحُجَّتُهُمْ : أَنَّ اسْتِيفَاءَ عُقُوبَتِهَا مِمَّا يَسْتَقِل بِهِ وَلِيُّ الأَْمْرِ ، وَأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ غَيْرِ الْخُصُومِ ، فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةٌ . ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَمَا اخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ مِنْ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ فَضَعِيفٌ . لأَِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَالأَْصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ عَدَمُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا .
16 - أَمَّا الْقِصَاصُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِ .
وَاخْتَارَهُ الْخَصَّافُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ ، لأَِنَّ التَّحْكِيمَ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ .
وَالإِْنْسَانُ لاَ يَمْلِكُ دَمَهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ مَوْضِعًا لِلصُّلْحِ .
وَمَا رُوِيَ مِنْ جَوَازِهِ فِي الْقِصَاصِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ فَضَعِيفٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ حَقًّا مَحْضًا لِلإِْنْسَانِ - وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ حَقَّهُ - وَلَهُ شَبَهٌ بِالْحُدُودِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل .
17 - وَلاَ يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِي مَا يَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، لأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لِلْحَكَمَيْنِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَلاَ يُمْكِنُهُمَا الْحُكْمُ عَلَى الْقَاتِل وَحْدَهُ بِالدِّيَةِ ، لِمُخَالَفَتِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُوجِبْ دِيَةً عَلَى الْقَاتِل وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِلَةِ ، إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ مُحَدَّدَةٍ - كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْل خَطَأً - وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ ( دِيَةٌ ، عَاقِلَةٌ ) .
أَمَّا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمُحَدَّدَةِ ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ وَنَافِذٌ .
18 - وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَحْكُمَ فِي اللِّعَانِ كَمَا ذَكَرَ الْبُرْجَنْدِيُّ ، وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ نُجَيْمٍ . وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ اللِّعَانَ يَقُومُ مَقَامَ الْحَدِّ .
وَأَمَّا فِيمَا عَدَا مَا ذُكِرَ آنِفًا ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ وَنَافِذٌ . وَلَيْسَ لِلْمُحَكَّمِ الْحَبْسُ ، إِلاَّ مَا نُقِل عَنْ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ مِنْ جَوَازِهِ .
19 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَهُمْ جَائِزٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا هِيَ : الرُّشْدُ ، وَضِدُّهُ ، وَالْوَصِيَّةُ ، وَالْحَبْسُ ( الْوَقْفُ ) ، وَأَمْرُ الْغَائِبِ ، وَالنَّسَبُ ، وَالْوَلاَءُ ، وَالْحَدُّ ، وَالْقِصَاصُ ، وَمَال الْيَتِيمِ ، وَالطَّلاَقُ ، وَالْعِتْقُ ، وَاللِّعَانُ . ؛ لأَِنَّ هَذِهِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا الْقَضَاءُ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ إِمَّا حُقُوقٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، كَالْحَدِّ وَالْقَتْل وَالطَّلاَقِ ، أَوْ حُقُوقٌ لِغَيْرِ الْمُتَحَاكِمَيْنِ ، كَالنَّسَبِ ، وَاللِّعَانِ .
وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ عَرَفَةَ حَدًّا لِمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ ، فَقَال : ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيمَا يَصِحُّ لأَِحَدِهِمَا تَرْكُ حَقِّهِ فِيهِ .
وَقَال اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ : إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الأَْمْوَال ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا .
20 - وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَهُمْ لاَ يَجُوزُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا طَالِبٌ مُعَيَّنٌ ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبُ .
وَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلاً فِي غَيْرِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ . وَفِي قَوْلٍ : لاَ يَجُوزُ .
وَقِيل : بِشَرْطِ عَدَمِ وُجُودِ قَاضٍ بِالْبَلَدِ .
وَقِيل : يَخْتَصُّ التَّحْكِيمُ بِالأَْمْوَال دُونَ الْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا .
21 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ : فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ .
فَفِي ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ التَّحْكِيمَ يَجُوزُ فِي كُل مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَاضِي مِنْ خُصُومَاتٍ ، كَمَا قَال أَبُو الْخَطَّابِ ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَال وَالْقِصَاصُ وَالْحَدُّ وَالنِّكَاحُ وَاللِّعَانُ وَغَيْرُهَا ، حَتَّى مَعَ وُجُودِ قَاضٍ ، لأَِنَّهُ كَالْقَاضِي وَلاَ فَرْقَ . وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِجَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي الأَْمْوَال خَاصَّةً ، وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالْقِصَاصُ وَالْحَدُّ فَلاَ يَجُوزُ فِيهَا التَّحْكِيمُ ، لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الاِحْتِيَاطِ ، فَلاَ بُدَّ مِنْ عَرْضِهَا عَلَى الْقَضَاءِ لِلْحُكْمِ .
شُرُوطُ التَّحْكِيمِ :
يُشْتَرَطُ فِي التَّحْكِيمِ مَا يَأْتِي :
22 - أ - قِيَامُ نِزَاعٍ ، وَخُصُومَةٍ حَوْل حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ .
وَهَذَا الشَّرْطُ يَسْتَدْعِي حُكْمًا قِيَامَ طَرَفَيْنِ مُتَشَاكِسَيْنِ ، كُلٌّ يَدَّعِي حَقًّا لَهُ قِبَل الآْخَرِ .
23 - ب - تَرَاضِي طَرَفَيِ الْخُصُومَةِ عَلَى قَبُول حُكْمِهِ ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ مِنْ قِبَل الْقَاضِي فَلاَ يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا بِهِ ، لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْقَاضِي .
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَقَدُّمُ رِضَى الْخَصْمَيْنِ عَنِ التَّحْكِيمِ ، بَل لَوْ رَضِيَا بِحُكْمِهِ بَعْدَ صُدُورِهِ جَازَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : لاَ بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ التَّرَاضِي .
24 - ج - اتِّفَاقُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَالْحَكَمِ عَلَى قَبُول مُهِمَّةِ التَّحْكِيمِ . . . وَمُجْمَل هَذَيْنِ الاِتِّفَاقَيْنِ يُشَكِّل رُكْنَ التَّحْكِيمِ ، الَّذِي هُوَ : لَفْظُهُ الدَّال عَلَيْهِ مَعَ قَبُول الآْخَرِ .
وَهَذَا الرُّكْنُ قَدْ يَظْهَرُ صَرَاحَةً . ، كَمَا لَوْ قَال الْخَصْمَانِ : حَكَّمْنَاكَ بَيْنَنَا . أَوْ قَال لَهُمَا : أَحْكُمُ بَيْنَكُمَا ، فَقَبِلاَ .
وَقَدْ يَظْهَرُ دَلاَلَةً . . . فَلَوِ اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ عَلَى رَجُلٍ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُعْلِمَاهُ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُمَا اخْتَصَمَا إِلَيْهِ ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا ، جَازَ .
وَإِنْ لَمْ يَقْبَل الْحُكْمَ ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ إِلاَّ بِتَجْدِيدِ التَّحْكِيمِ .
وَلِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يُقَيِّدَا التَّحْكِيمَ بِشَرْطٍ . . . فَلَوْ حَكَّمَاهُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فِي يَوْمِهِ ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ وَجَبَ ذَلِكَ . ، وَلَوْ حَكَّمَاهُ عَلَى أَنْ يَسْتَفْتِيَ فُلاَنًا ، ثُمَّ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِمَا قَال جَازَ .
وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ ، فَحَكَمَ أَحَدُهُمَا ، لَمْ يَجُزْ ، وَلاَ بُدَّ مِنِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمَحْكُومِ بِهِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَا لَمْ يَجُزْ .
وَكَذَلِكَ لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَحْكِيمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ .
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ غَيْرَهُ بِالتَّحْكِيمِ . لأَِنَّ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَرْضَيَا بِتَحْكِيمِ غَيْرِهِ .
وَلَوْ فَوَّضَ ، وَحَكَمَ الثَّانِي بِغَيْرِ رِضَاهُمَا ، فَأَجَازَ الأَْوَّل حُكْمَهُ ، لَمْ يَجُزْ لأَِنَّ الإِْذْنَ مِنْهُ فِي الاِبْتِدَاءِ لاَ يَصِحُّ ، فَكَذَا فِي الاِنْتِهَاءِ ، وَلاَ بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ الْخَصْمَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ . وَقِيل : يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ، كَالْوَكِيل الأَْوَّل إِذَا أَجَازَ بَيْعَ الْوَكِيل الثَّانِي .
إِلاَّ أَنَّ تَعْلِيقَ التَّحْكِيمِ عَلَى شَرْطٍ ، كَمَا لَوْ قَالاَ لِعَبْدٍ : إِذَا أُعْتِقْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا ، وَإِضَافَتَهُ إِلَى وَقْتٍ ، كَمَا لَوْ قَالاَ لِرَجُلٍ : جَعَلْنَاكَ حَكَمًا غَدًا ، أَوْ قَالاَ : رَأْسَ الشَّهْرِ . . . كُل ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ . وَالْفَتْوَى عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل .
25 - وَلَيْسَ لِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مُحَكَّمٍ لَيْسَ أَهْلاً لِلتَّحْكِيمِ . وَلَوْ حَكَمَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ ، فَأَجَازَا حُكْمَهُ ، لَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ حَكَّمَاهُ فِي الاِبْتِدَاءِ .
26 - وَلاَ يَحْتَاجُ الاِتِّفَاقُ عَلَى التَّحْكِيمِ لِشُهُودٍ تَشْهَدُ عَلَى الْخَصْمَيْنِ بِأَنَّهُمَا قَدْ حَكَّمَا الْحَكَمَ .
إِلاَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي الإِْشْهَادُ خَوْفَ الْجُحُودِ . وَلِهَذَا ثَمَرَةٌ عَمَلِيَّةٌ : إِذْ لَوْ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ حَكَّمَا الْحَكَمَ ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا ، فَأَنْكَرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا أَنَّهُ حَكَّمَهُ ، لَمْ يُقْبَل قَوْل الْحَكَمِ أَنَّ الْجَاحِدَ حَكَّمَهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ .
27 - وَيَجِبُ أَنْ يَسْتَمِرَّ الاِتِّفَاقُ عَلَى التَّحْكِيمِ حَتَّى صُدُورِ الْحُكْمِ ، إِذْ إِنَّ رُجُوعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْل صُدُورِ الْحُكْمِ يُلْغِي التَّحْكِيمَ ، كَمَا سَنَرَى .
فَلَوْ قَال الْحَكَمُ لأَِحَدِهِمَا : أَقْرَرْتَ عِنْدِي ، أَوْ قَامَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ عَلَيْكَ بِكَذَا ، وَقَدْ أَلْزَمْتُكَ ، وَحَكَمْتُ بِهَذَا ، فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الإِْقْرَارَ أَوِ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ لِقَوْلِهِ ، وَمَضَى الْقَضَاءُ . لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْمُحَكَّمِ قَائِمَةٌ . وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْقَاضِي .
أَمَّا إِنْ قَال ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَزَلَهُ الْخَصْمُ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَحُكْمَهُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ ، كَالْحُكْمِ الَّذِي يُصْدِرُهُ الْقَاضِي بَعْدَ عَزْلِهِ .
28 - د - الإِْشْهَادُ عَلَى الْحُكْمِ ، وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا لِصِحَّةِ التَّحْكِيمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِقَبُول قَوْل الْحَكَمِ عِنْدَ الإِْنْكَارِ ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْشْهَادِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ .
طَرِيقُ الْحُكْمِ :
29 - طَرِيقُ كُل شَيْءٍ مَا يُوصَل إِلَيْهِ ، حُكْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ .
وَعَلَيْهِ فَإِنَّ طَرِيقَ الْحُكْمِ : مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ مَوْضُوعُ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ .
وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ ، أَوِ الإِْقْرَارِ ، أَوِ النُّكُول عَنْ حَلِفِ الْيَمِينِ .
يَسْتَوِي فِي هَذَا حُكْمُ الْحَكَمِ ، وَحُكْمُ الْقَاضِي .
فَإِنْ قَامَ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ حُجَّةً مُوَافِقَةً لِلشَّرْعِ . وَإِلاَّ كَانَ بَاطِلاً .
وَيَبْدُو أَنَّ الْحَكَمَ لاَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ .
وَأَمَّا كِتَابُ الْمُحَكَّمِ إِلَى الْقَاضِي ، وَكِتَابُ الْقَاضِي إِلَيْهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ ، إِلاَّ بِرِضَى الْخَصْمَيْنِ ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِهِ وَنَفَاذِهِ .
الرُّجُوعُ عَنِ التَّحْكِيمِ :
30 - حَقُّ الرُّجُوعِ عَنِ التَّحْكِيمِ فَرْعٌ مِنْ صِفَةِ التَّحْكِيمِ الْجَوَازِيَّةِ . . . وَلَكِنَّ هَذَا الْحَقَّ لَيْسَ مُطْلَقًا .
31 - فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ ، وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِكُل خَصْمٍ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْل صُدُورِ الْحُكْمِ ، وَلاَ حَاجَةَ لاِتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ رَجَعَ كَانَ فِي ذَلِكَ عَزْلٌ لِلْمُحَكَّمِ .
أَمَّا بَعْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ حَقُّ الرُّجُوعِ عَنِ التَّحْكِيمِ ، وَلاَ عَزْل الْمُحَكَّمِ ، فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَبْطُل الْحُكْمُ ، لأَِنَّهُ صَدَرَ عَنْ وِلاَيَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلْمُحَكَّمِ ، كَالْقَاضِي الَّذِي يُصْدِرُ حُكْمَهُ ، ثُمَّ يَعْزِلُهُ السُّلْطَانُ .
وَعَلَى هَذَا : فَإِنِ اتَّفَقَ رَجُلاَنِ عَلَى حَكَمٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا فِي عَدَدٍ مِنَ الدَّعَاوَى ، فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِهِمَا ، ثُمَّ رَجَعَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ عَنْ تَحْكِيمِ هَذَا الْحَكَمِ ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ الأَْوَّل نَافِذٌ ، لَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيمَا بَقِيَ ، فَإِنْ حَكَمَ لاَ يَنْفُذُ .
وَإِنْ قَال الْحَكَمُ لأَِحَدِ الْخَصْمَيْنِ : قَامَتْ عِنْدِي الْحُجَّةُ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَى عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ ، فَعَزَلَهُ هَذَا الْخَصْمُ ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَكَمُ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ .
32 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : لاَ يُشْتَرَطُ دَوَامُ رِضَا الْخَصْمَيْنِ إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ . بَل لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْحُكْمِ ، ثُمَّ بَدَا لأَِحَدِهِمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْل الْحُكْمِ . تَعَيَّنَ عَلَى الْحَكَمِ أَنْ يَقْضِيَ ، وَجَازَ حُكْمُهُ .
وَقَال أَصْبَغُ : لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ مَا لَمْ تَبْدَأِ الْخُصُومَةُ أَمَامَ الْحَكَمِ ، فَإِنْ بَدَأَتْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمَا الْمُضِيُّ فِيهَا حَتَّى النِّهَايَةِ .
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ : لَيْسَ لأَِحَدِهِمَا الرُّجُوعُ وَلَوْ قَبْل بَدْءِ الْخُصُومَةِ .
33 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يَجُوزُ الرُّجُوعُ قَبْل صُدُورِ الْحُكْمِ ، وَلَوْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ . وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ .
وَقِيل بِعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ . أَمَّا بَعْدَ الْحُكْمِ فَلاَ يُشْتَرَطُ رِضَا الْخَصْمِ بِهِ كَحُكْمِ الْقَاضِي .
وَقِيل : يُشْتَرَطُ ؛ لأَِنَّ رِضَاهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي أَصْل التَّحْكِيمِ ، فَكَذَا فِي لُزُومِ الْحُكْمِ . وَالأَْظْهَرُ الأَْوَّل .
34 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لِكُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْحُكْمِ .
أَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ ، وَقُبَيْل تَمَامِهِ ، فَفِي الرُّجُوعِ قَوْلاَنِ :
أَحَدُهُمَا : لَهُ الرُّجُوعُ لأَِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتِمَّ ، أَشْبَهَ قَبْل الشُّرُوعِ .
وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا رَأَى مِنَ الْحَكَمِ مَا لاَ يُوَافِقُهُ رَجَعَ فَبَطَل مَقْصُودُهُ . فَإِنْ صَدَرَ الْحُكْمُ نَفَذَ .
أَثَرُ التَّحْكِيمِ :
35 - يُرَادُ بِأَثَرِ التَّحْكِيمِ : مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ نَتَائِجَ .
وَهَذَا الأَْثَرُ يَتَمَثَّل فِي لُزُومِ الْحُكْمِ وَنَفَاذِهِ ، كَمَا يَتَمَثَّل فِي إِمْكَانِ نَقْضِهِ مِنْ قِبَل الْقَضَاءِ .
أَوَّلاً : لُزُومُ الْحُكْمِ وَنَفَاذُهُ :
36 - مَتَى أَصْدَرَ الْحَكَمُ حُكْمَهُ ، أَصْبَحَ هَذَا الْحُكْمُ مُلْزِمًا لِلْخَصْمَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ ، وَتَعَيَّنَ إِنْفَاذُهُ دُونَ أَنْ يَتَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى رِضَا الْخَصْمَيْنِ ، وَعَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ . وَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الْقَاضِي .
وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ ، فَلَوْ رَجَعَ عَنْ حُكْمِهِ ، وَقَضَى لِلآْخَرِ لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ ؛ لأَِنَّ الْحُكُومَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَضَاءِ الأَْوَّل ، فَكَانَ الْقَضَاءُ الثَّانِي بَاطِلاً .
37 - وَلَكِنَّ هَذَا الإِْلْزَامَ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ حُكْمُ الْحَكَمِ يَنْحَصِرُ فِي الْخَصْمَيْنِ فَقَطْ ، وَلاَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمَا ، ذَلِكَ لأَِنَّهُ صَدَرَ بِحَقِّهِمَا عَنْ وِلاَيَةٍ شَرْعِيَّةٍ نَشَأَتْ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى اخْتِيَارِ الْحَكَمِ لِلْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ نِزَاعٍ وَخُصُومَةٍ . وَلاَ وِلاَيَةَ لأَِيٍّ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِهِ ، فَلاَ يَسْرِي أَثَرُ حُكْمِ الْحَكَمِ عَلَى غَيْرِهِمَا .
38 - وَتَطْبِيقًا لِهَذَا الْمَبْدَأِ ، فَلَوْ حَكَّمَ الْخَصْمَانِ رَجُلاً فِي عَيْبِ الْبَيْعِ فَقَضَى الْحَكَمُ بِرَدِّهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقٌّ بِرَدِّهِ عَلَى بَائِعِهِ ، إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ الأَْوَّل وَالثَّانِي وَالْمُشْتَرِي بِتَحْكِيمِهِ ، فَحِينَئِذٍ يَرُدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ ، فَادَّعَى أَنَّ فُلاَنًا الْغَائِبَ قَدْ ضَمِنَهَا لَهُ عَنْ هَذَا الرَّجُل ، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلاً ، وَالْكَفِيل غَائِبٌ . فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى الْمَال ، وَعَلَى الْكَفَالَةِ ، فَحَكَمَ الْحَكَمُ بِالْمَال وَبِالْكَفَالَةِ ، صَحَّ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ وَلَمْ يَصِحَّ بِالْكَفَالَةِ ، وَلاَ عَلَى الْكَفِيل .
وَإِنْ حَضَرَ الْكَفِيل ، وَالْمَكْفُول غَائِبٌ ، فَتَرَاضَى الطَّالِبُ وَالْكَفِيل ، فَحَكَمَ الْمُحَكَّمُ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ جَائِزًا ، وَنَافِذًا بِحَقِّ الْكَفِيل دُونَ الْمَكْفُول .
وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ هَذَا الْمَبْدَأِ غَيْرُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ ، هِيَ : مَا لَوْ حَكَّمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَغَرِيمُهُ رَجُلاً فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا ، وَأَلْزَمَ الشَّرِيكَ شَيْئًا مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ نَفَذَ هَذَا الْحُكْمُ ، وَتَعَدَّى إِلَى الشَّرِيكِ الْغَائِبِ ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ الْغَائِبِ . وَالصُّلْحُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ . فَكَانَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ رَاضِيًا بِالصُّلْحِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ .
وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْعُرْفَ بَيْنَ التُّجَّارِ قَدْ جَعَل التَّحْكِيمَ مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ كَأَنَّهُ تَحْكِيمٌ مِنْ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ . وَلِهَذَا لَزِمَ الْحُكْمُ ، وَنَفَذَ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا .
ثَانِيًا : نَقْضُ الْحُكْمِ :
39 - قَدْ يَرْضَى الْخَصْمَانِ بِالْحُكْمِ ، فَيَعْمَلاَنِ عَلَى تَنْفِيذِهِ . . وَقَدْ يَرَى أَحَدُهُمَا رَفْعَهُ إِلَى الْقَضَاءِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ ، وَالْحَنَابِلَةُ ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ لَمْ يَنْقُضْهُ إِلاَّ بِمَا يَنْقُضُ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِذَا رُفِعَ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ إِلَى الْقَاضِي نَظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا مَذْهَبَهُ أَخَذَ بِهِ وَأَمْضَاهُ ، لأَِنَّهُ لاَ جَدْوَى مِنْ نَقْضِهِ ، ثُمَّ إِبْرَامِهِ .
وَفَائِدَةُ هَذَا الإِْمْضَاءِ : أَنْ لاَ يَكُونَ لِقَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلاَفَهُ نَقْضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ ، لأَِنَّ إِمْضَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ ابْتِدَاءً .
أَمَّا إِنْ وَجَدَهُ خِلاَفَ مَذْهَبِهِ أَبْطَلَهُ ، وَأَوْجَبَ عَدَمَ الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ .
وَهَذَا الإِْبْطَال لَيْسَ عَلَى سَبِيل اللُّزُومِ ، بَل هُوَ عَلَى سَبِيل الْجَوَازِ ، إِنْ شَاءَ الْقَاضِي أَبْطَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَأَنْفَذَهُ .
40 - وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الإِْجَازَةُ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ .
وَعَلَيْهِ فَلَوْ حَكَّمَا رَجُلاً ، فَأَجَازَ الْقَاضِي حُكُومَتَهُ قَبْل أَنْ يَحْكُمَ ، ثُمَّ حَكَمَ بِخِلاَفِ رَأْيِ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ أَجَازَ الْمَعْدُومَ .
وَإِجَازَةُ الشَّيْءِ قَبْل وُجُودِهِ بَاطِلَةٌ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ .
وَلَكِنَّ السَّرَخْسِيَّ قَال : هَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا فِي اسْتِخْلاَفِ غَيْرِهِ . وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي الاِسْتِخْلاَفِ فَيَجِبُ أَنْ تَجُوزَ إِجَازَتُهُ .
وَتُجْعَل إِجَازَةُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ اسْتِخْلاَفِهِ إِيَّاهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِل حُكْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِنْ حَكَّمَا رَجُلاً ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ حَكَّمَا آخَرَ ، فَقَضَى بِحُكْمٍ آخَرَ ، ثُمَّ رُفِعَ الْحُكْمَانِ إِلَى الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُ الْمُوَافِقِ لِرَأْيِهِ .
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَنْقُضُ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ إِلاَّ إِذَا كَانَ جَوْرًا بَيِّنًا . سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِ الْقَاضِي ، أَمْ مُخَالِفًا لَهُ .
وَقَالُوا بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْل الْعِلْمِ ، وَبِهِ قَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى .
انْعِزَال الْحَكَمِ :
41 - يَنْعَزِل الْحَكَمُ بِكُل سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الأَْتِيَّةِ :
أ - الْعَزْل : لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عَزْل الْمُحَكَّمِ قَبْل الْحُكْمِ ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ قَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ، فَلَيْسَ لَهُمَا عَزْلُهُ ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ اسْتَخْلَفَهُ .
ب - انْتِهَاءُ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لِلتَّحْكِيمِ قَبْل صُدُورَ الْحُكْمِ .
ج - خُرُوجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّحْكِيمِ .
د - صُدُورُ الْحُكْمِ .
.****************************
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
*********************************
رابط صفحة المكتبة على الفيس بوك
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
*************************************************************
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]